لغة العرب من أغنى اللغات كلما، وأعرقها قدماً، وأوسعها لكل ما يقع تحت الحس، أو يجول في الخاطر: من تحقيق علوم، وسن قوانين وتصوير خيال، وتعيين مرافق: وهي على هندمة وضعها، وتناسق أجزائها لغة قوم أميين، ولا عجب أن بلغت تلك المنزلة، من بسطة الثروة، وسعة المدى إذا كان لها من عوامل النمو، ودواعي البقاء والرقي، ما قلما يتهيأ لغيرها وما رواه لنا منها أئمة اللغة وجاء به القرآن الكريم والحديث النبوي هو نتيجة امتزاج لغات الشعوب التي سكنت جزيرة العرب ولا شك في أن من أسباب امتزاج هذه اللغات ما يأتي: 1 هجرة القحطانين إلى جزيرة العرب ومخالطتهم فيها العرب البائدة باليمن ثم تمزقهم في بقاع الجزيرة كل ممزق بظلمهم وتخرب بلادهم بسيل العرم. 2 هجرة اسماعيل عليه السلام إلى جزيرة العرب واختلاطه وبينه بالقحطانين بالمصاهرة والمجاورة والمحاربة والمتاجرة: وأظهر مواطن هذا الامتزاج مشاعر الحج والأسواق التي كانت تقيمها العرب في أنحاء بلادها، ومن هذه الأسواق عكاظ ومجنة وذو المجاز.
وأهمها سوق عكاظ: وكانت تقام من أول ذي العقدة إلى اليوم العشرين منه. وأقيمت تلك السوق بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة وبقيت إلى ما بعد الإسلام حتى سنة تسع وعشرين ومائة. وكان يجتمع بهذه السوق أكثر أشراف العرب للمتاجرة، ومفاداة الأسرى والتحكيم في الخصومات وللمفاخرة بالشعر والخطب في الحسب والنسب والكرم والفصاحة والجمال والشجاعة وما شاكل ذلك. وكان من اشهر المحكمين بها في الشعر النابغة الذبياني. ومن أشهر خطبائها قس بن ساعدة الإيادي. وقد لهج الشعراء بذكرها في شعرهم. وحضرها منهم الرجال والنساء. كلام العرب الغرض من كلام العرب كغيره الإبانة عما في النفس من الأفكار ليكون مدعاة إلى المعاونة والمعاضدة. وذريعة إلى تسهيل أعمال الحياة. ولما كانت هذه الأفكار لا تزال متجددة غير متناهية. كانت صور الكلام المبين عنها لا تزال كذلك متجددة خاضعة لقوى الاختراع والابتداع وأنواع الإنشاء والتأليف على حسب ما يقتضيه المقام فقد تصل صورة الكلام إلى الغاية القصوى في البلاغة، وقد تنحط صورة العبارة إلى الدرك الأسفل من الإبانة. بحيث لو انحطت عن ذلك لكانت عند الأدباء بأصوات الحجماوات أشبه، وبين الحالين مراتب، وجل بحث علم الأدب وتاريخه في التفاوت بين هذه المراتب ورجالها.
وكلام العرب بمراتبه: العليا والدنيا وما بينهما تعتوره كغيره أحوال تتغير بتغير حياة أهله العقلية والمعاشية والدينية، وتلك الأحوال تتمثل في "أغراض اللغة، ومعانيها، وعباراتها".
أغراض اللغة في الجاهلية
1 كانت اللغة تستعمل في أغراض المعيشة البدوية، ووصف مرافقها من حل وترحال، وانتجاع كلأ. واستدرار غيث. واستنتاج حيوان.
2 وفي غثارة المنازعات والمشاحنات، وما يتبعها من الحض على إدراك الثأر. والتفاخر بالانتصار، والتباهي بكرم الأصل والنجار.
3 شرح حال المشاهدات والكيفيات والإخبار عن الوقائع والقصص وغير ذلك. معاني اللغة في الجاهلية
تجمل معاني اللغة (1) في قصر معاني المفردات على ما تقتضيه البداوة والفطرة الغضة الخالية من تكلف أهل الحضر وتأنقهم (2) وفي انحصار أحكامهم في (الخبر) ومطالبهم عن (الإنشاء) إما في التعقل المستنبط من الحس والمشاهدة أو الطبيعة أو التجربة أو الوجدان. من غير مبالغة ولا إغراق. وإما في التخيل المنتزعة صوره من المحسوسات بحيث لا تخرج عن الإمكان العقلي والعادي.
عبارة اللغة في الجاهلية
تلخص أحوال العبارة في الجاهلية فيما يأتي: 1 استعمال الألفاظ في معانيها الوضعية. أو معان مناسبة للمعنى الأصلي بطريق المجاز الذي قد يصبح بعد قليل وضعاً جديداً.
2 كثرة استعمال المترادف، وقلة الأعجمي المعبر عنه بالمعرب، وخلو الكلام العربي من اللحن، وغلبة الإيجاز عليه كما تراه واضحاً في شعرهم.
3 إرسال الأساليب الكلامية على حسب ما تقتضيه البلاغة بدون تكلف.
تقسيم كلام العرب
ينقسم كلام العرب قسمين: نثراً ونظماً. فالنظم هو الموزون المقفى. والنثر ما ليس مرتبطاً بوزن ولا قافية.
النثر المحادثة الخطابة الكتابة
الأصل في الكلام أن يكون منثوراً: لإبانته مقاصد النفس بوجه أوضح وكلفة أقل وهو غما حديث يدور بين بعض الناس وبعض في إصلاح شؤون المعيشة. واجتلاب ضروب المصالح والمنافع وذلك ما يسمى (المحادثة) أو "لغة التخاطب". وإما خطاب من فصيح نابه الشأن يلقيه على جماعة في أمر ذي بال. وهذا ما يسمى "الخطابة". وإما كلام نفسي مدلول عليه بحروف ونقوش لإرادة عدم التلفظ به. أو لحفظه للخلف. أو لبعد الشقة بين المتخاطبين. وذلك ما يسمى (الكتابة). إذن فأقسام النثر ثلاثة. محادثة. خطابة. وكتابة وكلها إما أن تكون كلاماً خالياً من التزام التقفيه في أواخر عباراته: وذلك ما يسمى "النثر المرسل" وإما أن تكون قطعاً ملتزماً في آخر كل فقرتين منها أو أكثر قافية واحدة. وهذا ما يسمى "السجع" وهو نوع من الحلية اللفظية إذا جاء عفواً ولم يتعمد التزامه. ولحسن وقعه في الأسماع. وحوكه وتأثيره في الطباع كان اكثر ما يستعمل في الخطابة. والأمثال. والحكم. والمفاخرات. والمنافرات.
المحادثة أو لغة التخاطب
لغة التخاطب عند عرب الجاهلية بعد أن توحدت لغاتها هي اللغة المعربة المستعملة في شعرها وخطبها وكتابتها. ولا فرق بينها في البلاغة إلا بقدر ما تستدعيه حال الخطابة والشعر والكتابة: من نبالة الموضوع والتأنق في العبارة.
وأكثر ما وصل إلينا منها كان شريف المعنى. فصيح اللفظ.